قراءة التاروت

من أوراق اللعب إلى الرموز الغامضة: تاريخ وتطور وإرث التاروت

تخيل هذا المشهد: مساء خريفي بارد في ميلانو القرن الخامس عشر. داخل قصر مُضاء بالشموع، تتعالى ضحكات النبلاء الإيطاليين حول طاولةٍ تزينها أوراقٌ مرسومةٌ يدويًّا بفرسانٍ وعشاقٍ وأباطرة. إنها لعبة “تاروتشي” – معركة ذكاءٍ حيث تفوز الاستراتيجية على الخرافات. الآن، انتقل ستة قرونٍ إلى الأمام، داخل شقة في بروكلين تُزينها أضواء خافتة، توزع قارئة التاروت أوراقًا أمام عميلة. تظهر أوراق “القمر”، “البرج”، “النجم”. تمتلىء الغرفة بتوترٍ صامت، وكأن الرموز المحفورة على الأوراق تنبض بأسرارٍ خفية. تقول القارئة بهدوء: “هذا ليس حَتمًا قدرِيًّا… بل خياراتٌ نصنعها”.

هذه هي مفارقة التاروت: ما بدأ كلعبةٍ للنخبة الأوروبية في عصر النهضة، تحول إلى لغة عالمية للتأمل والروحانيات وحتى التمرد. أوراقه الـ78 أشبه باختبار “روشاخ” للتجربة الإنسانية، تعكس صراعات القرون الوسطى وأزمات الهوية في القرن الحادي والعشرين. لكن كيف تحولت لعبة أوراق إلى ظاهرة روحية؟ ولماذا لا تزال تسحرنا في عصر الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟

قصة التاروت هي نسيجٌ من الفن، والغموض، والبحث الإنساني عن المعنى. حكاية أمراءٍ ملولين، ومفكرين غامضين في القرن التاسع عشر يطاردون “حكمة مصر الضائعة”، وفنانات نسويات يستعدنَ رمزيته. على مدار رحلته، حظرته الكنائس، واستغلهت الشركات، وناقشه علماء النفس. لكن جوهره بقي كما هو: التاروت يزدهر لأنه يُجبرنا على مواجهة المجهول – ليس للتنبؤ بالمستقبل، بل لنتعلم الإبحار في فوضى الحاضر.

في هذه الرحلة، سنتتبع مسار التاروت من صالونات النبلاء إلى بودكاستات العصر الحديث. سنبدأ من بلاطات إيطاليا المشمسة، حيث نُحتت أول أوراقه كرمزٍ للترفيه والطبقة الاجتماعية. ثم نغوص في صالونات باريس المظلمة في القرن الثامن عشر، حيث حوَّلَه المفكرون الحرون إلى وعاءٍ للمعارف الغامضة. سنشهد انفجاره في الثقافة الشعبية – من أغلفة ألبومات البانك روك إلى عيادات العلاج النفسي – ونخوض في نقاشاته الأكثر إثارة: هل هو أداة للتمكين أم الاستغلال؟ تراثٌ مقدس أم لوحةٌ فارغة للرأسمالية؟

ربما ستظل تتساءل في النهاية: هل هذه الأوراق سحرٌ أم استعارةٌ مجازية؟ لكن شيءً واحدًا مؤكدًا: أعظم خدع التاروت ليست التنبؤ بالمصير… بل بقاؤه خالدًا.

1. الأصول: ولادة التاروت كلعبة (القرن الخامس عشر–الثامن عشر)

1.1 ألعاب الأوراق الأوروبية المبكرة: من النرد إلى الرموز

قبل ظهور التاروت بقرون، كانت أوروبا في العصور الوسطى تعج بألعاب الصدفة. كان النرد يُهز في الحانات، وألعاب الأوراق البسيطة تنتشر عبر طرق التجارة من العالم الإسلامي. بحلول القرن الرابع عشر، ظهرت أوراق تحمل رموزاً كـ”السيف” و”الكأس” و”العملة” و”عصا البولو” – مُستوحاة من أوراق المماليك في مصر – لتسلية النبلاء والتجار. لكن هذه الأوراق افتقرت للدراما التي تميز التاروت. كانت أدوات للمقامرة، لا لسرد القصص.

وفي منتصف القرن الخامس عشر، تحولت مدن شمال إيطاليا – ميلانو، فيرارا، وبولونيا – إلى مختبرات للإبداع. بين الحروب واندفاعة عصر النهضة، خطرت لفكرةٌ ثورية لشخصٍ ما (ربما نبيلٌ ضجر أو فنانٌ بارع في البلاط): ماذا لو تصبح الأوراق أكثر من مجرد عدّ للنقاط؟ هكذا وُلد التاروت.

سُميت اللعبة أولاً تاروتشي – نسيبٌ استراتيجي للعبة “البريدج”، حيث يتنافس اللاعبون لاستخدام أوراق “التريفيات” الرمزية. لم تكن هذه الرموز غامضة، بل سخريةً من السلطة: البابا، الإمبراطور، و”الغبي” (مهرج يسخر منهما). التنبؤ بالمستقبل؟ ليس بعد. كانت لعبةً للمفكرين والمخططين، حيث تباهى الأرستقراطيون بذكائهم – وثرواتهم – عبر أوراقٍ مرسومة بتفاصيل فاخرة.

1.2 أوراق فيسكونتي-سفورزا: الفن، السلطة، ورقائق الذهب

تخيل بين يديك ورقةً مذهبة بحبر الذهب الحقيقي، حوافها ناعمة من لمسات الأصابع عبر القرون. تُعتبر أوراق فيسكونتي-سفورزا – المصنوعة عام 1441 – تحفةً فنية تُضاهي لوحة الموناليزا. طلبها فيليبو ماريا فيسكونتي، دوق ميلانو الوسواس، ليس للعب بل للتفاخر. كل ورقةٍ مرسومة يدويًّا تعرض مجد عائلته: فرسانٌ بدروع، عذارى ملائكية، وشعار العائلة – ثعبانٌ يلتهم رجلاً، استعارةٌ واضحة لطموحهم.

تألفت الأوراق الـ78 (22 “أركانا كبرى” رمزية، و56 “أركانا صغرى” مُقسمة لكؤوس وسيوف وعملات وعصي) من سجل مرئي لعصرهم. “الغبي” ظهر كمتسولٍ مهمش، وورقة “العشاق” صورت عقد زواج سياسي لا قصة حب. لكن داخل هذه الصور كانت بذور مستقبل التاروت: رموزٌ قوية ستُشعل لاحقاً خيال المُتأملين.

لم يتبق اليوم سوى 15 ورقة من هذا السطح، مبعثرة في المتاحف كقطع أحجية. لكن إرثها واضح: التاروت بدأ كآلة دعاية، طريقةٌ للنخبة لقول: انظروا كم نحن متحضرون – ولا يُمسنا أحد!”

1.3 الانتشار عبر أوروبا: من القصور إلى طاولات الحانات

بحلول القرن السادس عشر، تحرر التاروت من قيود إيطاليا. في فرنسا، أصبح لعبة البلاط المفضلة لدى لويس الرابع عشر، حيث تناقش النبلاء بين الجولات. حمل الجنود السويسريون نسخاً مصغرة في جيوبهم، بينما أعاد الألمان تسميته إلى تاروك واستبدلوا الرموز الإيطالية ببلوط وأوراق أشجار.

لكن مع الانتشار، تخلص التاروت من نخبويته. أتاحت الأوراق المطبوعة بطباعة الخشب للجزارين والخبازين اللعب في الحانات. الفرنسيون بسَّطوا الرموز إلى قلوب وسباتي (معاول) وديناري (ماسات) وكلوبات (أندية) – الرموز التي نستخدمها اليوم. بينما تحورت صور “الأركانا الكبرى” مع الفولكلور المحلي: في جبال الألب، نبتت قرونٌ لشيطان الورقة، وفي المناطق البروتستانتية، تم إعادة رسم البابا بشكل غامض كـ”الحكيم”.

بحلول القرن الثامس عشر، أصبح التاروت آلة أوروبية للتكيف – لعبةٌ تعكس هوية حاملها. لكن إمكاناتها الغامضة كانت لا تزال نائمة، تنتظر أحلام عصر الرومانسية لإيقاظها.

لماذا يهم هذا؟


أصول التاروت ليست مجرد درس تاريخ. إنها تذكيرٌ بأن المعنى يُصنع، لا يُولد جاهزاً. لم يخطر ببال نبلاء عصر النهضة أن رموزهم ستصبح أدوات للاكتشاف الذاتي. لكن كل مرة يخلط شخصٌ اليوم الأوراق، فهو يعزف على لحن لعبة عمرها 600 عام – بدأت بغرور دوقٍ وفرشاة رسام. الأوراق لم تتغير… نحن من تغيرنا.


2. التحول الغامض: التاروت في القرنَيْن الثامن عشر والتاسع عشر

2.1 ولادة التاروت الباطني: أكاذيب، أساطير، ومصفف شعر باريسي

تخيل صالونًا باريسيًّا مُعتَمًا عام 1772، حيث الفلاسفة والثوريون والمتسلقون الاجتماعيون يحتسون الأفسنتين ويناقشون “أسرار القدماء”. فجأة يظهر أنطوان كورت دي جيبيلين، القس السويسري الذي تحول إلى هاوٍ لعلم المصريات، ويُطلق صاعقةً في موسوعته العالم البدائيالتاروت هو كتاب تحوت المفقود – نصٌ هارب من أهرامات مصر، جلبه الغجر السحرة إلى أوروبا!”. تجاهل جيبيلين حقيقة أن الهيروغليفية لم تُفك شفرتها بعد، وأن أصول التاروت الإيطالية موثقة. لكن أسطورته التصقت كالغراء.

لماذا؟ لأن أوروبا القرن الثامن عشر كانت تتضور جوعًا للغموض الشرقي. غزو نابليون لمصر (1798) ألهب هوس كل ما هو “شرقي”، ومنح كذبة جيبيلين للتاروت سيرةً غامضة كأحجية أبو الهول. لكن السحر الحقيقي جاء من إيتيلا (المولود باسم جان بابتيست أليت)، تاجر بذور سابق تحول إلى مصفف شعر مشهور. في 1789 – نفس عام اقتحام الباستيل – نشر كتاب تحوت، أول دليل للعرافة بالتاروت. أوراق إيتيلا، المليئة برموز فلكية وتفسيرات معكوسة، حوّلت التاروت إلى مرآة للروح. وصفه المشككون بمحتال، بينما أقسم أتباعه أن الأوراق تنبأت بالثورة الفرنسية.

معًا، صنع جيبيلين وإيتيلا المستحيل: حوّلا لعبة أوراق عمرها 300 عام إلى “حكمة قديمة”. كانت هذه ولادة التاروت كما نعرفه – مزيجٌ من التمثيل، البحث العلمي، والأكاذيب الصريحة.

2.2 إحياء الهيرميتيك: السحرة، القبالة، وقسٌ متمرد

بحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت أوروبا سكرى بالتمرد الروحي. حلّت جلسات تحضير الأرواح محل القداديس، وكتب شعراء مثل بودلير قصائدَ تمجيدًا للحشيش. هنا دخل إليفاس ليفي، القس الكاثوليكي السابق ذو الميل للدراما. في كتابه عقيدة وطقوس السحر السامي، نسج التاروت في “مفتاح كوني” يربط شجرة الحياة في القبالة، أبراج الفلك، وسعي الخيمياء لصنع الذهب. لم يكن تاروت ليفي مصريًّا فحسب – بل أصبح شيفرةً كونية، حيث الـ22 ورقة أركانا كبرى بواباتٍ للحقيقة الإلهية.

لكن أفكار ليفي احتاجت مسرحًا. هنا ظهر الهيرميتيك أوردر أوف ذا جولدن داون (النظام الهرمسي لفجر الذهبي)، جمعية سرية أسسها ماسونيون وممثلون عام 1888. في محافلهم المضاءة بالشموع بلندن، رسم أعضاء مثل آرثر إدوارد وايت وأليستر كراولي خرائط التاروت على متاهة من الطقوس. كان نظامهم مهووسًا: كل ورقة ترتبط بحرف عبري، كوكب، وبرج فلكي. “فارس العصي”؟ نارٌ داخل نار. “الكاهنة العظمى”؟ القمر، الحدس، وحرف “جيمل” العبري (الذي يعني جمل).

لم يكن هذا مجرد تصوف – بل كان “تمثيلاً منهجيًّا للروح”. وأثمر ذلك عن أوراق رايدر-وايت-سميث (1909)، حيث حولت الفنانة باميلا كولمان سميث عقائد الجولدن داون إلى مشاهد حية: “الموت” كهيكل عظمى يمتطي حصانًا أبيض، “العشاق” ممزقون بين الرغبات الأرضية والملائكية. لأول مرة، تحكي الأوراق الصغرى قصصًا كاملة، لا مجرد رموز مكررة. هكذا دخل التصوف التيار العام.

2.3 أوراق القرن التاسع عشر: إرث مارسيليا وهوس ماسوني

بينما كان المتصوفة يحلمون بالرموز، حافظ تاروت مارسيليا على البساطة. مطبوع في فرنسا منذ القرن السابع عشر، بألوان أساسية وشخصيات مسطحة، أصبح حجر رشيد للأوراق الغامضة. “العدالة” ترفع الميزان كتمثال الحرية، و”عجلة الحظ” تدور مع أبو الهول الضاحك. لكن قوته الحقيقية كانت في غموضه. خلافًا لتفسيرات إيتيلا المُعلَّبة، دعا تاروت مارسيليا للتأويل الحر.

ثم جاء أوزفالد فيرث، الماسوني السويسري الذي كره “ابتذال” التاروت. عام 1889، صمم أوراقًا تجمع بساطة مارسيليا مع أسرار الماسونية. “الكاهنة العظمى” عنده تجلس بين عمودين أسود وأبيض (كمعبد سليمان)، و”الساحر” يتلاعب بأدوات الخيمياء على طاولة تحمل رمز اللانهاية. أوراق فيرث لم تكن للعب – ولا حتى للعرافة. كانت أدوات تأمل، يُفكَّك رمزها كالهندسة المقدسة.

بحلول 1900، تحول التاروت إلى قاعة مرايا: هل هو دليل ماسوني؟ خريطة قبالية؟ أداة ثورية؟ الإجابة كانت: كل ما سبق.

لماذا يهم هذا؟


القرن التاسع عشر لم “يكتشف” تصوف التاروت – بل اخترعه. أكاذيب جيبيلين، غطرسة ليفي، وطقوس وايت تذكرنا أن الروحانية غالبًا ما تكون لصقًا لشوق الإنسان. لكن بدون جرأتهم، ربما اندثر التاروت كلعبة أوراق منسية. بدلًا من ذلك، حولوه إلى مرآة للروح الحديثة: مُتصدعة، باحثة، تُعيد اختراع نفسها بلا نهاية.

3. التاروت الحديث (القرن العشرين–الآن)

3.1 الثقافة الشعبية والانتشار: من كهوف التصوف إلى رفوف المنازل

في عام 1909، هزَّ ثورةً صامتة عالم الغموض. أوراق رايدر-وايت-سميث – برسومات الفنانة ثنائية الميول الجنسية باميلا كولمان سميث – حوَّلت التاروت إلى رواية بصرية. اختفت الرموز المجردة لـ”مارسيليا”، وحلَّت محلها مشاهدُ تلمس القلب: طفلٌ يمتطي حصانًا أبيض (“الشمس”)، هيكلٌ عظمى يدوس ملكًا (“الموت”)، وامرأةٌ في بستان رمان (“الكاهنة العظمى”). عملت سميث مقابل أجر زهيد تحت إشراف الصوفي “آي. إي. وايت”، ولم تنل الشهرة في حياتها. لكن فنها جعل التاروت ملكًا للجميع، بدلًا من طقسٍ سري للنخبة.

ثم دخل أليستر كراولي، “الوحش العظيم” للتصوف، الصورة. عام 1944، بينما كانت الحرب العالمية مستعرة، انعزل في قصر إنجليزي مع الفنانة ليدي فريدا هاريس لصنع “تاروت تحوت”. كان هذا السطح كابًا مهلوسًا: أشكال هندسية نيونية، آلهة مصرية، ورموز يونغية مثل “الدهر” (ورقة على شكل مهبل ترمز للبعث). لم تكن أوراق كراولي مجرد لعبة – بل بيانًا لدينه “الثيليما”، الذي نادى: افعل ما تشاء هو القانون الوحيد. وصفه البعض بالتجديف، بينما عبده الهيبيون.

بحلول السبعينيات، خرج التاروت من المحلات الغامضة ليظهر على أغلفة ألبومات “ليد زيبلين”، ويُلهم شخصيات “حرب النجوم” لجورج لوكاس، وحتى أفلام جيمس بوند. لم يعد تابوًا – بل أصبح موضة.

3.2 حركة العصر الجديد: العلاج، النسوية، والبحث عن الذات

لم تخترع الستينيات موسيقى الروك فحسب – بل روحانية جديدة. بين احتجاجات فيتنام ومسيرات الحقوق المدنية، رفض جيلٌ الأديان المنظمة. أصبح التاروت مرآةً للروح، لا كرة بلورية. عام 1971، نشرت النسوية ماري ك. غرير (الراهبة الكاثوليكية السابقة) كتاب التاروت لذاتك، داعية القراء إلى تدوين يومياتهم والتأمل “ومحاورة” الأوراق. لم يعد التاروت للتنبؤ بزوج المستقبل – بل لفك تشابكات الصدمات والخيارات المهنية والهوية الجنسية.

ثم جاء تاروت أم السلام (1981). صممته النسويتان كارين فوجيل وفيكي نوبل، مستبدلتين السيف والإمبراطور بإلهاتٍ وأوراق دائرية (“لأن البطريركية تحب الزوايا”). أصبح “الحكيم” دائرة نساء يقرعن الطبول، و”العشاق” جسدين عاريين بجندر غامض. أحرق المحافظون الأوراق، بينما حملها التقدميون في المظاهرات. أصبح التاروت فعلًا سياسيًّا – طريقة لإعادة تشكيل السلطة بورقةٍ تلو الأخرى.

3.3 العصر الرقمي والتيار السائد: التاروت في زمن تيك توك

اليوم، التاروت في كل مكان – ولا مكان. تطبيقات مثل “لابيرينثوس” تستخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد القراءات، بينما يصور مراهقو تيك توك فيديوهات “اختر ورقة” لملايين المتابعين. يمكنك شراء “تاروت ستاربكس” (نعم، موجود!) أو حضور ورشة عمل شركاتية حيث تمثل ورقة “البرج” “الابتكار التخريبي”. يستخدمه المعالجون النفسيون لاكتشافات المرضى، والكتاب لعلاق جمود الإبداع.

لكن العصر الرقمي ليس مثاليًّا. يجادل النقاد بأن القراءات الآلية (“الكون يقول… انسحبي منه!”) تجرد التاروت من إنسانيته. لكن وسط الفوضى، تُخلق جيوبٌ من المعنى. مصممون من مجتمع الميم يصنعون أوراقًا تُجسّد تعدد العلاقات وفرح المتحولين. فنانون أصليون يستعيدون رموزًا سرقها المستعمرون. وفي عالم ما بعد الجائحة، رسالة التاروت – أن عدم اليقين يمكن تجاوزه – صارت أعمق من أي وقت.

لماذا يهم هذا؟


التاروت الحديث كائنٌ متحول: كان سلاحًا للثقافة المضادة، سلعةً شركاتية، وشبحًا رقميًّا. لكن قلبه يظل إنسانيًّا عنيدًا: أداةٌ لسؤال “من أنا؟” في عالم نادرًا ما يجيب. سواءً اخترت ورقةً بتطبيق هاتف أو سطحٍ مرسوم يدويًّا، قوة التاروت ليست في تنبؤاته – بل في تلك اللحظة التي تتوقف فيها. نفسٌ عميق قبل قلب الورقة. لحظة إدراك أن المستقبل ليس محددًا… بل قصةٌ تكتبها الآن.

4. الرمزية والتأثير الثقافي

4.1 النماذج الأصلية والموضوعات الكونية: التاروت مرآة للنفس

تخيل هذا المشهد: طالب جامعي يجلس متقاطع الساقين في غرفة سكنه، يتأمل ورقة “الغبي”. الشخصية تحدق نحو السماء، بينما كلب صغير ينقض على كعبيه، على بعد خطوة من السقوط من منحدر. يقول الطالب ضاحكًا: “هذا أنا!… ضائعٌ بين البراءة والأمل، على وشك الاندفاع نحو مرحلة النضج”.

هذه هي سحر رمزية التاروت – إنها تتحدث بلغة أقدم من الكلمات. أطلق كارل يونغ على هذه الرموز اسم “النماذج الأصلية”: أنماطٌ كونية مدفونة في اللاوعي الجمعي للإنسان. “الكاهنة العظمى”؟ هي الصوت الحدسي الذي نقمعُه. “الشيطان”؟ ذواتنا الظليلة – الإدمان والمخاوف التي نقيدها في أقبية أذهاننا. حتى رموز الأوراق الصغرى تنطق بحقائق بدائية: “الكؤوس” للحب، “السيوف” للصراع، “العصي” للطموح، “العملات” للبقاء.

لكن “الأركانا الكبرى” هي حيث يصبح التاروت رحلة البطل في 22 فصلًا. مسار “الغبي” – من البراءة (الورقة 0) إلى إتقان الذات (الورقة 21، “العالم”) – يعكس كل قصة نشوءٍ منذ الأزل. “البرج” ليس مجرد مبنى ينهار، بل اللحظة التي تفجّر فيها الحياة أوهامك المُحكمة. “الموت” ليس نهاية – بل الانفصال، الفصل من العمل، أو تحول الهوية الذي يفرض ولادة جديدة. قوة التاروت تكمن في غموضه: نفس الورقة التي تحذر أحدهم من الغرور (“الإمبراطور”)، تذكّر آخرًا باستعادة قوته.

لكن المفارقة هي: التاروت لا يعطي إجابات… بل يعكسها. كاختبار “روشاخ” عند الطبيب النفسي، تكشف الصور ما نستعد لرؤيته. لهذا قد تلمس ورقة “العشاق” من القرن السابع عشر وترًا عند شاب يؤمن بتعدد العلاقات، أو يسترشد راهبٌ من العصور الوسطى ومديرٌ منهك بنفس ضوء “النسّاك”.

4.2 التكيّفات العالمية: إعادة اختراع التاروت عبر الحدود… ومزالقها

في حي “أكيهابارا” بطوكيو، تبيع إحدى الآلات أوراق “تاروت المانغا”، حيث يصبح “الساحر” بطل أنمي أشعث الشعر، و”النجم” يتلألأ بزهور الكرز. في نيجيريا، يدمج الفنان آشيه أوبيتوو آلهة اليوروبا مع رموز رايدر-وايت، محولًا “أوشون” – إلهة الأنهار – إلى “الإمبراطورة”. وفي أسواق بروكلين، تعج الأرفف بتصاميم مستوحاة من التنجيم، الصحة العقلية، وحتى “سجون وتنانين”.

أصبح التاروت ثقافة “ريمكس” عالمية. لكن ليس كل التكيّفات متساوية. خذوا سطح “الهند المقدسة” الذي يلصق آلهة هندوسية على “الأركانا الكبرى” دون سياق – خطوةٌ يصفها باحثون هنود بـ”السياحة الروحية”. أو سطح “روح الأصليين” الذي يستعير رموزًا من ثقافة لاكوتا بينما يتجاهل نضالاتهم المستمرة. هذه التصاميم تُشعل جدلاً: متى يتحول الإلهام إلى سرقة؟ وهل يمكن للتاروت – ابن الحقبة الاستعمارية الأوروبية – أن يتحرر منها حقًّا؟

بعض الفنانين يتنقلون بحذر على هذا الحبل. في سطح “العالم التالي” الذي صممته الناشطة السوداء كريستي سي. رود، تصبح “العدالة” ناشطةً متحولة جنسيًّا، و”الحكيم” منظمًا مجتمعيًّا. أما سطح “التاروت للروح البرية” (ليندزي ماك) فيحوّل الأوراق إلى أدوات للحزن البيئي والعدالة لذوي الإعاقة. أعمالهم تطرح سؤالًا: قصص من يرويها التاروت؟ ومن يحق له إعادة كتابتها؟

لماذا يهم هذا؟

رموز التاروت هي اختبار “روشاخ” للقيم الثقافية. البابا من العصور الوسطى يصبح “حكيمًا” حديثًا، لعبة نبلاء إيطاليا تتحول إلى مزار لفنان نيجيري. لكن هذه المرونة تحمل ثقلًا. كل مرة نخلط فيها الأوراق، نجيب على سؤال: هل التاروت مرآةٌ للعالم… أم مطرقةٌ لإعادة تشكيله؟

ربما هو كليهما. تذكّرنا الأوراق أن الرموز تحمل قوةً فقط إذا تنفسنا فيها معنى. وفي عالمٍ ممزق، قد يكون هذا الدرس الأعمق للتاروت: الهوية ليست ثابتة… بل قصة نرويها – ونستطيع إعادة كتابتها.

5. الخلافات والانتقادات: التاروت بين الإيمان والخداع

5.1 الشكوك: “هل هذا علم أم احتيال؟”

في مقهى ببروكلين، تشاهد الطالبة الفيزيائية بريا قارئة تاروت تُخبر صديقتها: أنتِ تواجهين قرارًا مصيريًّا مرتبطًا بمهنتك. تتدحرج عينا بريا ساخرة: بالطبع سيقولون مهنة… نحن في 23 من عمرنا! ماذا يتوقعون غير ذلك؟.

يرى المشككون مثل بريا أن “بصيرة” التاروت تعتمد على القراءة الباردة – تقنية يستخدمها القُراء عبر عبارات عامة (تشعرين بالضياع مؤخرًا) ومراقبة ردود الأفعال (ارتعاشة، تنهيدة) لصياغة رسالة مُلفَّقة. بإضافة انحياز التأكيد – ميل العقل لتذكر النجاحات (الورقة تنبأت بلقاء غريب!”) ونسيان الإخفاقات (وتنبأت أيضًا بربح اليانصيب!”) – تصنع الوهم.

يقارن علماء مثل ريتشارد وايزمان (عالم نفس وساحر) التاروت بـالبلاسيبوينجح لأنك تصدق أنه ناجح، لا لأن للأوراق قوة. تظهر دراسات أن قراءات التاروت تعتمد على تأثير بارنوم – تقبُّل الناس لوصف عام على أنه حقيقة شخصية (أنت أقوى مما تظن). لكن حتى المشككين يعترفون بقيمته كمرآة للتأمل الذاتي. كما تقول الكاتبة جيسا كريسبينالأوراق لا تتنبأ بمستقبلك… بل تكشف أوهامك الحالية.

5.2 الرفض الديني: من قرارات البابا إلى تحذيرات الكنائس

عام 1450، حظرت الكنيسة الكاثوليكية التاروت في ميلانو واصفة إياه بـ*”كتاب الشيطان المصوَّر”*. بحلول 1736، أدرجه الفاتيكان في قائمة الكتب الممنوعة لصلته بالهرطقة والسحر. انتقل إلى 2023: يُنشر خطابٌ مُصوَّر لقس تكساسي بعنوان أوراق التاروت: بوابة للتأثير الشيطاني يحث المتابعين على حرق الأوراق.

الرفض الديني يستند غالبًا لتحريم العرافة في النصوص المقدسة (مثل سفر التثنية 18:10-12). لكن المعارضة ليست مُوحَّدة. فبعض الصوفيين اليهود يرحبون بصلته بالقبالة، بينما مسيحيون تقدميون يستخدمونه للتأمل. تقول القسيسة الكويرية لونا راميريزالمسيح تحدث بأمثال… التاروت طريقة أخرى لمواجهة الغموض.

مع ذلك، تبقى الوصمة. تُخفي الممرضة تارا أوراقها عن عائلتها الإنجيلية: سيظنونني أدعو الشياطين… لكنه علاجٌ لي.

5.3 التسليع: “المجمع الصناعي للتاروت”

ادخل متجر “أوربان أوتفتيرز” لتجد سطح تاروت زودياك بـ25 دولار بجوار شموع معطرة. على الإنترنت، يبيع “مؤثرون” قراءات بـ200 دولار، بينما تطبيقات مثل “مستيك بووت” تنتج نبوءات آلية. يقول القارئ المكسيكي-الأمريكي دييغوالتاروت أصبح نخبويًّا… مظهرٌ بلا جذور.

ينتقد البعض تحويل الروحانيات لسلعة. تُنتج أسطح مثل “تاروت الشاكرات” من مصمم في يوتا بلا صلة بالهندوسية، بينما تجني الشركات الأرباح. لكن المدافعين يرون أن التسليع يُ democratize الوصول. تقول الطالبة عائشةلم أستطع شراء سطح بـ100 دولار… لكن الذي بـ12 دولارًا أنقذ صحتي النفسية.

الجوهر هو النية: هل التاروت ممارسة مقدسة أم منتجٌ للعناية الذاتية؟ بالنسبة للفنانة زارا التي ترسم أسطحًا تكرّم تراثها النيجيري، الإجابة واضحة: التاروت ليس موضة… هو حوار مع التاريخ.

لماذا يهم هذا؟


خلافات التاروت مرآة لأقدم جدالات البشرية: الإيمان ضد العقل، التقاليد ضد الرأسمالية، الفردية ضد العقائد. لكن بقاءه يعتمد على هذا الاحتكاك. كما تلاحظ الكاتبة أماندا ييتس غارسياالتاروت يزدهر في المناطق الرمادية – حيث يجلس الفيزيائي والعراف على نفس الطاولة، كلٌ يرى حقيقته في الأوراق.

ربما السؤال الحقيقي ليس هل التاروت حقيقي؟ بل ماذا يجبرنا على مواجهته؟ سواء رأيته مقدسًا أم احتيالًا أم وسيلة مساعدة، التاروت يُجبرك على مراجعة القصص التي ترويها لنفسك… ومن يربح منها.

الخاتمة: التاروت… رقصة الخلود بين الغموض والمعنى

تخيل هذا المشهد: امرأة تجلس إلى طاولة مطبخها في بروكلين، تخلط أوراق “رايدر-وايت” القديمة بحركاتٍ مألوفة. الحواف البالية وبقع القهوة تحكي تاريخًا من اللمسات. تسحب ورقة “البرج”: صرحٌ ينهار، تلعقه النيران. تبتسم بسخرية: “ها أنتِ تظهرين من جديد”.

هذه اللحظة تلخص مفارقة التاروت الخالدة: أوراقه الـ78 قطعة أثرية و كائناتٌ متحولة. سطح “فيسكونتي-سفورزا”، الذي كان يومًا دليل غرور نبيل، يرقد الآن في متحفٍ مُتحكّم بالمناخ. نفس الصور التي زيّنت قصور عصر النهضة تومض على شاشات تيك توك، يُفسرها مراهقون في طوكيو وجدّات في بيونس آيرس. التاروت إرثٌ تاريخي أعيد تشكيله كنبؤة عصرية، ورقٌ مطبوع بـ5 دولارات أو مُذهّبٌ بماء الذهب بـ500 دولار. هو – كما يقول المؤرخ روبرت بليس – مرآة ترفض أن يعلوها الصدأ.

ما سر بقائه؟ التاروت يزدهر لأنه فارغٌ ومليءٌ في آن. كلوحة بيضاء، يمتص كل ما نحمله إليه: الصوفي يرى رسائل إلهية، وعالم النفس يكتشف أنماطًا بدائية، ومدير الشركة يبحث عن “الابتكار التخريبي”. لكن رموزه – قفزة “الغبي”، اختيار “العشاق”، دورة “عجلة الحظ” – بدائية لدرجة تُشعرنا أنها محفورة في حمضنا النووي. تذكرنا أن مخاوف البشر ورغباتهم لم تتغير كثيرًا منذ 1441. ما زلنا نبحث عن الحب، نخشى الفقد، ونصارع المجهول.

لكن السر الحقيقي: سحر التاروت ليس في التنبؤ، بل في الإبطاء الذي يفرضه. في عالم مهووس بالإجابات – خوارزميات تقول ماذا نشتري، من نرافق، كيف نعيش – يجبرنا التاروت على الجلوس مع الأسئلة: لماذا تُقلقني ورقة “البرج” اليوم؟ ماذا تريد “النجم” أن أتذكر؟ الأوراق لا ترسم الأقدار، بل تكشف الحقائق الهادئة التي دفنّاها تحت مسلسلات “نتفليكس” وقوائم المهام.

نعم، التاروت تم تسليعه وتسييسه وحتى تبسيطه. لكنه كالنهر الذي ينحت الصخر، يستمر. من دوائر “أم السلام” النسوية في السبعينيات، إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي الغد، يظل جوهره: أداة لمواجهة اللحظة الحاضرة.

فهل التاروت فنٌ أم سحر؟ تاريخٌ أم خدعة؟ ربما هو ببساطة بداية حوار – مع ذواتنا. بينما تعيد المرأة في بروكلين خلط الأوراق، هي تعرف الحقيقة: المستقبل ليس في الأوراق… بل في الخيارات التي ستتخذها بعد أن تضعها على الطاولة.

الفكرة الأخيرة:
أعظم درسٍ يعلمنا إياه التاروت ليس غامضًا – بل رحيم. هو يهمس: لا تحتاج لرؤية الطريق كله… فقط الخطوة التالية.

النصوص الأكاديمية الأساسية

  1. ديكر، رونالد، مايكل ديبوليس، ومايكل دوميت
    تاريخ التاروت الغامض، 1870–1970.
    لندن: داكويرث، 2002.
    • الغوص الأكاديمي الأعمق في تحول التاروت إلى أداة غامضة، يفند الأساطير (مثل “الأصل المصري”) ويتتبع صلته بالجمعيات السرية.
  2. بليس، روبرت إم.
    التاروت: التاريخ، الرمزية، والعرافة.
    نيويورك: تارشر/بريجي، 2005.
    • استكشافٌ متوازن لهوية التاروت المزدوجة كلعبة وأداة روحانية، مع تحليل غني لأيقونات الأسطح من العصور الوسطى إلى الحديثة.
  3. دوميت، مايكل
    لعبة التاروت: من فيرارا إلى سولت ليك سيتي.
    لندن: داكويرث، 1980.
    • تاريخٌ مُتأنٍ للعبة التاروت في أوروبا المبكرة، كتبه فيلسوفٌ دحض ادعاءات الغموضيين بأدلة أرشيفية.
  4. هيوسن، بول
    الأصول الغامضة للتاروت: من الجذور القديمة إلى الاستخدام الحديث.
    روشستر، فيرمونت: دستني بوكس، 2004.
    • يتتبع رمزية التاروت عبر الهيرميتيكية، الخيمياء، وإنسانية عصر النهضة، مع مقارنات بصرية لأسطح تاريخية.

ملاحظات حول النصوص:

  • كتاب ديكر وديبوليس ودوميت يُعتبر مرجعًا لفهم كيف تحول التاروت من لعبة إلى ظاهرة باطنية، مع فضح الأساطير الشائعة.
  • تحليل بليس يربط ببراعة بين الترفيه الأرستقراطي والبحث الروحي، مع صور مقارنة لأسطح مثل فيسكونتي ورايدر-وايت.
  • عمل دوميت يركز على الجانب التاريخي المجرد، مُثبتًا أن التاروت وُلد كلعبة استراتيجية – لا كتاب سري.
  • هيوسن يربط الرموز بتقاليد غامضة، مثل ربط “الكاهنة العظمى” بإيزيس المصرية، و”الإمبراطور” بفلسفة الحكم في عصر النهضة.

هذه الكتب تشكل أساسًا لفهم التاروت ليس كظاهرة روحية فحسب، بل كنتاجٍ لتاريخٍ معقدٍ من الفن، السياسة، والبحث الإنساني عن المعنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *